vrijdag 10 januari 2014

حين تكذب الأشجار! أو في تكريم السيدين وغارات الأنتينوف!
 
فجاة رأينا من مخائبنا شجرا يعبر فوق نهر السراب! هل سوف تتحقق إحدى إمنياتي الليلية؟ كنت طوال أيام أتمنى أن يقع بصري على أشجار في المدى الغارق في سراب ضوء النجوم. قلت للسائر بجواري دون حتى أن اتبين هويته: الاشجار لا تكذب!، قال السائر بجانبي دون أن يرفع وجهه: الأشجار لا تكذب لأنها لا تتكلم.
لكنني كنت مصرا على إنحيازي الشجري: الأشجار لا تكذب لكن هذا الجبل يخدعنا، كلما إقتربنا منه يغرينا أكثر بأن يسير بضع خطوات نحونا، لكن ما أن تشرق الشمس ونخلد نحن الى مخابئنا حتى يواصل هو رحلته بعيدا، كأنه يسير عكسنا، يتوقف في الظلام ويسير في النهار!

قلت لشيخ النور: الرئيس كرّم السيدين! بمناسبة عيد الاستقلال!
قال شيخ النور: وينه الاستقلال! ووينه العيد! ووينه البلد ذاته؟ البلد استقلت من الانجليز واستعمروها طلاّب السلطة. هسع أها دة بيقول امريكا وروسيا دنا عذابها. ومافي زول اتعذب غيرنا. دفعنا تكلفة الانقلاب كامل، دفعنا تمن الرصاص الكتلونا بيه. دفعنا تكاليف السجون السجننونا فيها . ومرتبات الناس الجوعتنا وحرمتنا من الدواء وحرمت اولادنا من التعليم. الانجليزي كان عدو، كان مستعمر، لكن راعى مصالح الناس. المشكلة في البيقول ليك انا وطني ويعرضك مع واطاتك للبيع، وبالتقسيط المريح كمان!.
قلت لشيخ النور: لكن عموما السيدين قبلوا التكريم! وشكروا الريس و..
قاطعني شيخ النور بضحكة عسكرية حاسمة قبل أن يقول: معقول زول يقلبني ويجي يكرّمني! دي يفهموها كيف؟ زول يقلع منك بلد كاملة ويديك شهادة! وكمان تمسكها! ويمكن يمشي يعلقها في الديوان ويوريها الضيوف! يقول ليهم شوفوا الزول القلع مني الحكم دة كريم كيف، جابني من دون الناس وكرّمني! زول قسّم البلد، حكمها غصب واتسبب فى موت ملايين الناس في حروب ما عندها معنى. بعد دة لو أنا زول بحترم نفسي وتاريخي، انا كنت حاكم شرعي الناس انتخبتني، كيف اقبل تكريم من زول خرق القانون والدستور؟ زول الدنيا كلها شايفاه مجرم حرب! واريته كان كتل ليه عدو، دة كتل شعبه! الشعب الحلف على كتاب الله يراعي مصالحه، اذا انا عندي تاريخ مشرف فعلا ما بقبل كلام زي دة، وكت اقبل حتى لو عندي تاريخ معناها الزول الكرمني دة افضل من تاريخي دة كله! وكت يكرمني مجرم حرب معناها أنا أبقى شنو يعني؟ بنط البيوت بالليل؟

قلت الزول دة خلاص لغى التمكين، رفد الجماعة الكبار، الجابوه للحكم! وجاب ناس الجيش. تاني زول ما عنده مؤهل غير دقينته زي زمان ما بيلقى شغل!
ضحك شيخ النور وقال: وانت صدقت! زول جة بكضبة، والكضب غيرو اسمه سموه أخبار، زي ما المجاعة بقت فجوة والكوليرا بقت اسهال مائي! السرقة ورفد الكفاءات وتعيين الحرامية بقى اسمها تمكين، وكتل الناس الابرياء بقى جهاد.وناس البلد بقو خونة وطابور، زول خرّب الخدمة المدنية الورثناها من الانجليز، كل شئ كان ماشي زي الساعة. بلد كاملة كان حاكمها مفتش واحد، هسع والي ومجلس وزراء وكل وزير بوزارته وموظفينه، ومجلس شعب ومحافظين وضباط اداريين ومحليات ولجان شعبية ومجالس مدن، ولجان فرعية ومنبثقة. وتعال شوف كنا وين وكت البلد دي كلها كان حاكمها محافظ واحد وبين زمن الجيش القاعد فوق راسنا دة، ندفع مرتباتهم وكل واحد فيهم داير يورينا انه احسن مننا وانّ كتّر خيره ان هو قبل يتنازل ويجي يحكم ناس رمم حاسدين زينا! الناس المؤهلين البلد دفعت فيهم دم قلبها شردوهم، وجابوا ناس الولاء على حساب الكفاءة. والنتيجة شنو؟ دمار في كل شئ. حتتوقع ايه من زول بليد غير مؤهل، جابوه المنصب عشان بس عنده دقن طويلة. حتى الدين نفسه، بيحرم انك تجيب زول غير كفء لوظيفة عامة بتمس حياة الناس ومستقبل اولادها. والنتيجة اهي لا مستقبل لا بلد ذاته! الكيزان عارفنها ما دوامة، عشان كدة ما ضيعوا وكت في دين وكرم اخلاق. سرقوا البلد خلوها جنازة وبعد داك قالوا لغينا التمكين! بعد ما رقدت وعدمت نفاخ النار! دارين يعملوا فوقنا زي عمايل عمك الخزين، إتسلبط في عجل شارد قال حقه، وكت ظهر سيد العجل بعد فترة، الخزين حلف اسم قال العجل حقه، الزول مسكين ما بتاع مشاكل استعوض الله وخلاه ليه، وكت العجل مرض وقرّب يموت، رسل لي صاحبه قال ليه خلاص تعال سوقه! كويس برضه ان ما عمل زي زمان وكت تمرض عنده بهيمة ويعرفها دايرة تموت، كان يضبحها ويفرّق على كل بيت كوم لحم ويجي يستلم القروش! 
قلت ذكرتني بقصة ناس حاسدين دي راجل كبير مرة زارنا في المدرسة جايي من الخرطوم، قلنا ليه الناس هناك كيف واحوالها كيف. قال لينا الناس هناك نصها حرامية والنص التاني حاسدنهم!
ضحك شيخ النور وقال: شكيناهم على الله. كيف ما نبقى حاسدين، شالو مننا كل شئ. باعو بلدنا قدام عينا، دمروا حتى أخلاقنا . زمن الاستعمار كان بجي عامل ناموس يحوم في الحلاّل كلها، يرش مبيد البعوض ويفتش لو لقى زول مخزّن موية ممكن توّلد باعوض، يجففها ويغرّم صاحبها. هسع أساسا مافي دولة عشان تفكر في مصلحة مواطن. الملاريا هلكت الناس، وعلاج مافي. ولو في علاج مكلّف والناس ما عندها إمكانية. وأكيد مسئولين اليومين ديل بيقولو: وينه المواطن ذاته النحارب ليه باعوض! ناس استبدت لغاية بقت في الدنيا ما شايفة زول غيرها. تقول بيعلموهم ان الزول الما معانا دة، ما زول! العدو المستعمر، كان على الأقل بيشوفنا واحد، ما بيفرزنا بشعر اللحية! كان مهتم بصحة المواطن وحياته، الوطني المستعمر بيهتم بموت المواطن، القروش الكانت بتمشي زمان عشان تكافح الباعوض وتعالج الملاريا وتعلّم الناس وتطور زراعة القطن، بتمشي هسع لشراء السلاح، يشتروا بيها الانتينوف، يملوها براميل بارود، عشان لو اتكلمنا وقلنا البغلة في الابريق، ينزلوها فوق رؤوسنا! رؤوس الكفرة والعملاء والمارقين، اللي هم نحن! 
سرحت بنظري في المدى، كنا نجلس فوق حصير السعف في الساحة الكبيرة في القرية، ونتكئ على جدار المسيد، كانت رياح الشتاء الباردة بدأت تهب محملة بالغبار. لكن الجو كان لا يزال أقرب الى الحر خصوصا في ساعات النهار. تبدو أشباح بوابات البيوت المطلة على الساحة مثل قطيع جمال ضخمة تسابق القمر. 
صمت شيخ النور، لا أسمع منه سوى صوت حبات المسبحة الرتيبة التي يسحبها بصباعه، بدا لي وكأنه هو من يقود الصمت الذي بدأ يغزو كل شئ. ساد الصمت في القرية. إختفى كل شئ يدل على وجود حياة في العالم. تلاشت حتى أصوات الكلاب الضالة وإختفى نهيق الحمير، شعرت ببرد جاف يتسلل الى قاع عظامي رغم أنني كنت ألف جسدي بشال ضخم من الصوف، لم إعرف إن كان بردا أو شعورا خارقا بالخوف، قلت لشيخ النور: يلا ندخل المسيد، الجو أصبح باردا! لكنه بدلا من أن يرد، إرتفع صوت غطيطه، لوهلة بدا لي صوت شخيره، مثل هدير صوت طائرة تخترق جدران الصمت، جدران الشتاء. شعرت كأن الصوت يوقظني من نوم عميق، نوم يغرق العالم كله، الناس والحيوانات، الأشجار والرمال. حتى القمر، كأن الهدير الذي سمعته يدوّي في السماء لم يكن سوى شخير القمر النائم في صحراء فضائه.


كنا موزعين في مخائبنا داخل الرمال، حين رأيت الشجر يسير من أمامنا في نهر السراب من على البعد. 
قلت بصوت مرتفع طغى عليه الرعب: أني أرى شجرا يسير!
إرتفعت عدة وجوه تنظر الى الاتجاه الذي أشرت إليه. نادى الحكيم المسن الذي يرافقنا: أدفنوا أطفالكم وأنفسكم جيدا في الرمال، نظر الى السماء الخالية ثم قال: إنها الانتينوف!
لم يكد يكمل جملته حتى سمعنا صوت هدير غريب. كأنه شخير العالم الغارق في سبات الضحى، يمزّق صمت االحياة في الصحراء.