woensdag 12 juni 2013

أوكامبو والتأصيل والانتخابات!
 


بعد صلاة الظهر جلست في الشمس أمام المسيد، كان الوقت شتاء، ومعظم الناس في الحواشات لذلك لم يحضر صلاة الظهر سوى عدد قليل ، بسبب الموسم لم ألتق معظم أهل القرية منذ أن وصلت في عطلتي السنوية قبل أيام، حين تسأل من تلتقيهم عن الموسم الزراعي تكتشف أن لا أحد تقريبا يذهب الى المزارع، سوى عدد قليل بجانب بعض كبار السن، بسبب مشاكل الزراعة الكثيرة هجرها الشباب وتوزعوا بدلا من ذلك في الفلوات أملا في العثور على قطعة ذهب، يبدو أن العثور على الذهب أيضا ليس سهلا لكنه أصبح على كل حال مهنة حتى وإن كانت تدر دخلا قليلا. سألت شابا صغيرا إلتقيته في طرقات القرية كيف يسير موسم الزراعة فأخبرني أنه ترك الزراعة منذ أعوام. وأنه يسافر الى مناطق البحث عن الذهب، سألته عن الكمية التي يعثر عليها هناك، فقال أنه يحصل شهريا على ما يعادل 300 جنيه تغطي منصرفاته الشخصية تقريبا.
أليس ذلك قليلا، قلت بخيبة أمل من كان يعتقد أن الباحثين عن الذهب يجنون ثروات طائلة.
قال لي (لكن وكت كنا في الزراعة لم نكن نجد شيئا ولا حتى ربع هذا المبلغ!)
تشعر في شتاء القرية بنوع من العزلة، كأنك صوفي أو راهب يعيش على حافة عالم على وشك أن تدمره أعاصير مجهولة. جاء بعد قليل فارس المجنون، كان يبدو سعيدا، سألته عن سر فرحه فأعلن: خلاص الانتخابات قربت!
قلت له وانت مالك ومال الانتخابات؟!
قال لي: مالي ونص. ونظر حوله وقال: ما شايف الحالة دي واقفة كيف، نجيب المال من وين؟
إعتقدت في البداية أنه سيقوم بجمع التبرعات من المتعاطفين مع حملته الانتخابية، قلت له: أها وبرنامجك الانتخابي شنو؟
وضع جركان العرقي جانبا وقال: برنامجي من كلمة واحدة بس: التأصيل!
أها قلت له وحتأصل شنو يعني؟ وهو فضل حاجة ما إتأصلت لسة؟
قال أي حاجة، الجماعة ديل عملوا تأصيل حتى للسرقة سموها تمكين، أنا كمان داير أعمل التأصيل حقي، يمكن تأصيلي يكون مضروب شوية، أقرب للصيني، لكن أكيد ما حيصل مرحلة السرقة تبقى تمكين وكدة.
قلت له أنا داير أعرف بالضبط إنت حتقول شنو ، أفرض أهو قدامك مكرفون، ودي الاذاعة و التلفزيون، ورينا حتقول شنو للناس عشان ترمي ليك صوتها في الصندوق؟
قال مبتسما: الصناديق دي الله أعلم نصلها! لكن عموما أنا برنامجي أي شئ يرجع أصلي زي ما كان، قبل ما الجماعة ديل يجوا ينقذونا.
يعني إنت ما قاصد التأصيل بتاع الجماعة. اللي هو جايي فيه الجانب الفكري..
قاطعني: بلا فكري بلا بطيخ، البلد كلها إتملت عمارات بالتمكين، وريني الفكري شنو في شغل الهمبتة الماشي في البلد دي، 60 مليار قروش بترول لو سألتهم ودوها وين هم ذاتم ما عندهم ليك إجابة. ياها دخلت التمكين بتاع التأصيل الفكري بتاعك دة.
قلت ليه تقصد شنو يعني إنك يمكن ما تصل الصندوق؟
ضحك بصوت عال وقال: والله بصراحة أنا جادي أخش الانتخابات دي وبكرة دي ح أمش أسجل نفسي في لجنة الانتخابات، كلمت ناس الحلة حيمشوا معاي عدد من الاخوان، غايتو حنخسر شوية ندفع ليهم حق المواصلات وحق الفطور لكن كله يهون في سبيل التأصيل الأصلي، مش الصيني بتاع الكيزان!
قلت ليه أيوة أنا فاهم إنت جادي لكن هل في إحتمال مثلا ما تواصل الانتخابات؟
وضع سيجارة القمشة في زاوية فمه ونظر لها (بقعر) عينه ثم اعلن:
والله الجماعة ديل طبعا لو إنت بقى عندك شعبية وفي إحتمال تفوز على مرشح الحكومة قالو ممكن يتفاوضوا معاك!
ضحكت انا هذه المرة وقلت: حتقبض يعني وتتنازل.
ابتسم وقال: إنت ليه تسميها قبض ورشوة والعياذ بالله، ما هو نحن كدة كدة القريشات النهبوها الجماعة ديل لازم نرجعها. انا لو لقيت منهم قرشين وانسحبت، اها لو جيتني انت عيان ولا في الحلة في زول محتاج قريشات يودي ولده المدرسة ولا زوجته عاوزة تولد ولا واحد عنده ملاريا، بقصر معاهم في شئ؟ وانت عارف البلد دي لو مرضت وما عندك شئ وجيرانك تعبانين، بس ترقد ترجى الموت. واهو كدة بضاعتنا ردت الينا زي ما بيقولو في الاخبار مع ان عمرنا ما شفنا بضاعة لينا رجعت تاني، اي شئ يخش التمكين دة تقنع منه، تاني الا تلقى قدام الله.
لكن كدة بتكون خنت الناس الاستأمنوك ووثقوا فيك ومشوا ضمنوك والا شنو.
قال: يا زول الناس دي ذاتها تعبانة وما لاقية شئ في الهيصة الحاصلة، الكيزان دخّلوا الناس في امتحان، الواحد تلقاه اليوم كله يوعظ ويشتم الحكومة بعد شوية يمسكوا على جنبة ، يغمتوا ليه حاجة قبل ما يعدها يكورك: الله أكبر ، سير سير يا الكشير، الناس تعبانة، الكيزان جوعوهم واكلوا رزق اولادهم، امس مشيت لشيخ عثمان، الامام، الزول التقي، لقيتو زعلان، قال لي مشينا الاجتماع مع الوزير، بدل نسمع حاجة عن الجازولين المعدوم والاسعار الغالية ومجانية التعليم الوزير شبكنا: الطهارة والايمان! سن الجاك بي نجاستو منو؟ وشابكننا الله اكبر الله اكبر ما عرفناه اجتماع ولا صلاة عيد! الكيزان قربوا يمرقوا الناس من الملة.
اها وهسع ناوي تتنازل بكم؟
قال: والله حسب السوق!
سوق شنو اصلو طماطم؟
ضحك وقال: والله طبعا كلما كبّرت كومي من الاخوان كلما القصة عدّلت معانا، لو بقى مرشحين كتار بتكون غالبا ميزانية التنازل واحدة يعني حنبقى فقرا واتقسموا النبقة. وطبعا دة موسم، الناس تعبانة ومافي شغل والكيزان ماسكين القرش بيناتم، الخلق كلها دايرة تترشح، أريت لو يعملوا الانتخابات دي كل سنة بدل أربع سنة! بقت حالتنا زي قصة الزول القالو كان برضو زي حالنا كدة مديون في البنوك وتعبان، لا زراعة نجحت معاه ولا قدر يمرق من البلد عمرة ولا حج، وطبعا لو ما عندك ضهر تروح في حديد، ولو عندك ضهر ووقعت يقولو ليك فنظرة الى ميسرة، اها خلاص أوامر القبض إتردمت عليه والبوليس بقى متوجه على بيته، ربك رب الخير طلع أمر القبض بتاع سيد الاسم، تلفت حوله حذرا وخفض صوته قليلا قبل أن يلقي بالاسم القنبلة : أوكامبو! اها صاحبنا طوالي مرق عدة الشغل، مكرفون صغير زي بتاع الجماعة أنصار السنة، وبقى يمشي يستلف ليه شوية كراسي ويدق ليه صيوان في أي فسحة ويدوّر المكرفون والبرنامج: تضامن مع رمز الدولة ضد المدعو اوكامبو! اها يتلمو الخلق ويجوه الجماعة يردموه قروش وكواريك ، لغاية ما المولد إنفض سدد ديونه وبنى ليه بيت كمان، وكت قابلتو قال لي والله اوكامبو دة، ولا بعرفو من وين ،خدمنى خدمة ابوي ما خدمنى زيها، اليوم كله ادعي الله يبارك فيه، ربنا يفتحها في وشو شقيش ما يقبل، ويوفقو كمان يمرق باقي لستة الواحد وخمسين. والله لو مرقهم نغنا لي جنى جنانا!
طيب ما يمكن الجماعة واثقين من مركز مرشحهم وما يشتغلوا بيك ولا يتفاوضوا معاك؟
لالا، الجماعة ديل ما بيحبوا زول يقيف قصادهم إنشاء الله معاه نفرين. ديل ناس الاجماع السكوتي يا اخوي، بيحاولوا دايما يظهروا وكأن اي زول معاهم، زول واحد يمرق من إجماعهم السكوتي دة طوالي علماني، عميل، طابور خامس ، مشى إسرائيل، الخ الخ!.
أمس قابلت شيخ ود الفكي، مرشح الكيزان في الانتخابات، الكان بتاع سكر التموين وقالو سف السكر، زول مانع، مال الحرام نفع معاه، قبل كم سنة كان يجي ماشي جنبك ما تشوفو من شدة ما هزلان، الغنماية تاكل عشاه، هسع بقى يأكل عشا ألف زول وبعد دة ينوم خفيف! قالو هو كوز من زمان، حكمة الله وكت كان فقران، كان في حاله، من الجامع للبيت للشغل، اها فجاة وكت الجماعة ديل مسكوا البلد، مرقت ليه فجاة كدة دقينة، وبقى متعهد بتاع جهاد ودفاع شعبى، بعد شوية ظهر فجأة بوكس قدام باب بيته، تقول نزل من السما، البوكس اتقلب بعد شوية لام عين، خايفين يوم نصحى نلقى طيارة قدام الباب. يوم السبت قابلته فى السوق، ما خلاص الانتخابات قربت لازم يظهر شوية، لامن يلقط الاصوات، تاني مافي زول يشوفو الا بعد أربع سنين، يقول ليك مشاغل، ونحن محاصرين، وما شاء الله البطن ماشة لي قدام، طيب لو ما كنت محاصر كان بقيت شنو؟ انت يا أستاذ التمكين معناه يعني الزول يبقى ماكن ولا شنو؟. اها لقيته لامي ليه شوية ناس يوم السوق وانا حأعمل وحأسوي، شافني قال لي : مالك قالو عاوز تنافسنا؟ قلت ليه مش قلتو ديمقراطية. قال لي يا زول انت الشغل دة ما بتقدر عليه. الشغلة دي صعبة أنا خايف عليك في نص الانتخابات تقع تموت، ما تلقى اليسترك!
قلت ليه أنا خفيف، نفر واحد يشيل جنازتي، لكن إنت لو وقعت عشرين نفر ما يرفعوك!
طيب نفرض ما دايرين يدوك حاجة وبقيت مضطر تواصل الانتخابات، حتعمل شنو والجماعة ديل ممكن يقولو عليك إنت ضد شرع الله؟
قصة شرع الله دي بقت ما بتجيب حاجة لأن الناس كلهم عرفوهم حرامية ومستهبلين، زمان كان ممكن يغشونا بالقصة دي. أيام الاحزاب حاجة صفية عمتي ماشة لمركز التصويت، قابلها كوز قال ليها : اها يا الحاجة ماشة تصوتي لي الله ولا لي حزب الأمة؟!
عمتى شديدة تقول عارفة عمايلهم قالت ليه: الله كمان جة نزل الانتخابات؟
إرتفع صوت المؤذن لصلاة العصر، قلت لفارس الذي نفض حذائه وملابسه إستعدادا للذهاب. ما تحضر معانا صلاة العصر .
لكنه إعتذر بأن سليمان الاعرج في إنتظاره ليذهبا لترتيب مشوار الغد للجنة الانتخابات.
قلت ليه الموضوع جد يعني.
إبتسم وهو يغادر: اها بس ما تنسونا من صالح الاصوات والدعوات.
مظاهرة الى الشمس
 

أعلنت حالة الطواريء في القرية، الزين أعلن العصيان المدني، أمهل اهل القرية ثلاثة ايام إما مساعدته لتعود زوجته الي بيته أو يجب الا يسأله احد إن اقدم علي إقتحام أي بيت من بيوت القرية بحثا عن إمرأة ما …

قال له شيخ النور: ما تصبر شوية يا الزين.
رد الزين : (الايدو في الموية ما زي الايدو في النار، انت يا شيخ النور عندك زوجتين، بالحمّام الكتير جلدك نشف، كلما نجيك في البيت نسأل عليك يقولو في الحمّام) واشار الي عضوه الذكري الذي ينتفض داخل جلباب الدمور وقال : أنا اقع بي دة وين ؟
كانت تلك نهاية منطقية لشهور من الحرمان بعد أن حصلت زوجته علي حكم من المحكمة بالطلاق بسبب سوء المعاملة والضرب الذي تعرضت له من زوجها وفشلت بعد ذلك كل محاولات الصلح التي حاول بها بعض اهل القرية، كانوا يجلسون في فناء المسيد تحت شجرة النيم العتيقة، بعد أداء صلاة الظهر.
قال شيخ الطيب: والمطلوب مننا شنو؟
قال الزين : يا المرة ترجع يا شوفوا لي مرة غيرها؟
أعلن شيخ الطيب: المرة دي تاني ما بترجع ليك
قال الزين: خلاص شوفوا لي مرة، انشاءالله واحدة من بناتك الشينات ديل!
قال الطيب اتأدب يا ولد.
ضحك شيخ النور وقال: (المشكلة ما في بت حتقبل بيك، سمعتك انك بتدق النسوان ملت البلد، بعدين الناس قالوا انت مخك ما تمام، في الشتاء بتعقل وفي الصيف بتجن، الا تعرس ليك مرة للشتاء وتطلقها في الصيف وترجعها في الشتا!

تدخل سليمان الاعرج وقال : (لو سمعت كلامي اقع الخرطوم هناك مافي زول بيعرف جنك ولا دقك للنسوان ، يمكن تلقي ليك مرة!
نظر الزين اليه نظرة ارتعدت لها فرائصه، كان الزين مشهورا بقوته الخارقة، الصيف الماضي هشم رأس ثور بضربة واحدة، وذات مرة تجمع حوله أربعون من رجال الشرطة للقبض عليه بعد ان أعتدي علي حارس حاول منعه من دخول المستشفي في وقت غير مخصص للزيارة. ضرب رجال الشرطة كلهم حتي لاذوا بالفرار.
كرر الزين تهديده قبل أن يغادر المسيد: (عندكم ثلاثة يوم بعداك ما في زول يسألني لو نطيت في أي بيت!)
قال شيخ الطيب بعد ذهاب الزين: وبعدين حنعمل شنو في المصيبة دي؟
اشعل النور سيجارة القمشة وقال : (لا زم نلقي ليه حل الزول الصبر غلبو! وضحك قبل ان يقول : انا الحمدلله بت ما عندي عشان اقنعها تعرسو!

وقال سليمان الاعرج: (ما يلم الجماعة عشان يدخلو معاهم الزواج الجماعي.)
وضحك شيخ النور وقال: والله كلنا دايرين الزواج الجماعي دة قالوا بعد العرس تلقي ليك قطعة واطة وشوية قريشات تتقسم الحاجات مع المرة وواحد قبل واحد بحر.
تنتحنح شيخ الطيب وتذكر زوجاته الثلاث ومشاكلهن التي لا تنتهي وقال: والله نحن دايرين طلاق جماعي لو في طريقة!
خرجوا ثلاثتهم من المسيد بعد خطوات وجدوا فارس المجنون يحمل جركان العرقي، قال له سليمان الاعرج : ماشي تسكر بالنهار؟ انت ما عندك خبر المشروع الحضاري والا شنو؟
ضحك فارس وقال حضاري شنو، العرقي دة اشتريناه من ناس المشروع ذاتهم. العساكر بقوا يبيعوا العرقي.
وسأل علي وين انشاء الله؟
قال شيخ النور: ماشين نرجع للزول دة المرة لو بتقبل!
انضم اليهم فارس.
ثم توقفوا للسلام علي شيخ ابراهيم البصير الذي كان مشغولا بصناعة حبل من نبات الحلفاء.
تفضلوا يا اخوانا.
ماشين نرجع المرة للزول دة قبل ما يقوم علي البلد!
ترك ابراهيم البصير الحبل علي الغارب وتبعهم.
ثم انضم لهم سليمان التاجر.
اصبحوا ستة.
مرت المظاهرة الصغيرة أمام طاحونة ود العبيد فانضم لهم ثلاثة. الفضل وتاج الدين وحسين ود الفضل. ثم تقدمت المسيرة وقال فارس المجنون يا اخوانا ما نقيف نعمل لينا يافطات نكتب فيها : يسقط الخونة .. أعيدوا فاطمة لبيت زوجها ..تسقط أمريكا .. يا أمريكا لمي بهايمك!
قال سليمان التاجر : الجماعة كان بيقولوا لمي جدادك غيروها لي بهايمك ولا شنو؟
اوقف رجل شرطة شعبية المسيرة ليسأل عن سبب التجمهر وحين عرف السبب بطل عجبه الرسمي وانخرط في المسيرة، اقترح شيخ الطيب:
تلاتة مننا يدخلو يقدموا مذكرة!
توقفت المسيرة امام بيت حاج سعيد والد فاطمة زوجة الزين.
لم يكن حاج سعيد موجودا، دخل الطيب وشيخ النور وسليمان الاعرج للتحدث اليها: قالت فاطمة: لو انطبقت السماء علي الارض فلن اعود اليه.
قال شيخ الطيب: يا بنتي البلد كلها في خطر والزول دة وعد قدام الناس دي كلها يعاملك احسن معاملة.

قالت فاطمة: في كل مرة كان يقول نفس الكلام.
انهت فاطمة المقابلة بقولها : من يريد ان يتكلم عليه ان ينتظر أبي.
خرج الوفد الي الخارج وفي انتظار والد فاطمة توالي توافد اهل القرية وتحول المكان الي سوق صغير تجول فيه بعض الغجر يبيعون الاواني وازدهرت تجارة الحمير ووقف رجل ينتمي لاحدي الجماعات السلفية يذّكر الناس بيوم الحساب،معلنا ان سبب البلاء والجوع هو ابتعاد الناس عن الطريق القويم. قال فارس: الزول دة ما عنده خبر ان قيامتنا قامت وهسع نحن في جهنم.
ضحك شيخ النور وقال: شيخنا دة يعاين لي الفيل ويطعن في ضلو. نحن من قمنا في دينا، صلاتنا وصيامنا وصلة ارحامنا، صغيرنا يحترم كبيرنا، والراجل بكلمته وكرم اخلاقه. حكومة جات بالانقلاب ،سرقوا البلد واكلوا حقوق الناس ومرقوهم من الملة، وقلبو كل شئ في الدنيا فوق تحت ، عندك قرش حتى لو سارقو انت فوق، راسمالك اخلاق وادب انت زول ساكت، وبعد دة يجيك واحد يقول ليك دة كلو منكم انتم!
حين وصل والد فاطمة بالرفض النهائي تحركت المسيرة بناء علي توجيهات شيخ النور الي وسط القرية للبحث عن زوجة للزين. جابت المسيرة طرقات القرية وواصل الباعة المتجولون بيع اشياءهم وواصل رجل الدين التذكير بالاخرة من داخل المسيرة مستخدما مكبرا صغيرا للصوت يعمل بحجارة البطارية وحين تحدث عن وجوب عدم الانغماس في مباهج الدنيا وتذكر الاخرة قال له سليمان الاعرج الذي كان يسير بجانبه: وينها المباهج يا شيخنا، بعدين الاخرة ذاتها ننساها كيفن ونحن عايشين في جهنم ذاتها!
ضحك الفضل حين فتح الباب ووجد المسيرة تتوقف امام بيته طالبين تزويج ابنته السرة من الزين علي سنة الله ورسوله واجماع العلماء. وقال بصوت عال غطي علي مكبر الصوت الذي يستخدمه رجل الدين: معليش يا اخوانا ما حنقدر نعزم عليكم شاي ولا قهوة لأن سكر بطاقة التموين انتهي ولو جبنا بلح دايرين ليكم اربعة خمسة جوالات. دخل الي البيت ليشاور ابنته في زواجها من الزين الذي اصبح مطلبا وطنيا، لم يستغرق رفضها سوي الوقت الذي استغرقه والدها ليبلغها بالطلب. واصلت المسيرة طريقها حتي أعلن شيخ النور عن رفض جميع الفتيات اللائي لم يسبق لهن الزواج، الزواج من الزين، وانتهي الي القول سنتجه الان الي شارع الارامل، ربما يكون حظه أفضل هناك!

قال الزين وهو يجلس في فناء بيته الفارغ وهو يستمع الي ضوضاء المسيرة التي تتلوي مثل ثعبان في ازقة القرية وهي تتجه الي الطرف الاخر منها :
بكرة أكيد حيكون في مرة في البيت دة!
تقدمت المسيرة في زقاق طويل يعبر القرية الي غربها وقد سدّت الشمس الغاربة مدخله البعيد، بحيث بدا مشهد المظاهرة وكأنها تتجه نحو الشمس، فيما تعالت أصوات أناشيد أطفال المدرسة الذين تبعوا المظاهرة حتي غطت علي صوت الداعية المنهك الذي كان يذّكر الناس بيوم الحساب ..

البلبل يغرّد في القصر بقرار جمهوري!
 

بعد أن إختفى النهر وإختفت حديقة القصر من بعده، تعود السيد الرئيس على قضاء معظم وقته في غرفة مكتبه. يحاول بعث الحياة في ذاكرته الميتة من خلال الصور التي يقتفي فيها خطى الوطن في القرن الماضي. فيرى عمال لقيط القطن يغنون في العربات الضخمة التي تحملهم من أقاصي الوطن، ويرى ريح الشمال المحملة بالغبار تعبر فوق سنابل القمح الواعدة، يرى الصبية يلعبون في الطرقات البعيدة في طريقهم للمدرسة. يكتشف في كل مرة ان أياد خفية تعبث بأوراقه ومقتنياته القديمة. حتى الصور كان يتم إستبدال بعضها تدريجيا بصور لا يمكن تحديد زمانها ومكانها، يظهر فيها أناس بلا ملامح يستحيل الجزم بأنهم وجدوا أصلا على ظهر البسيطة.
في ذلك الصباح إستيقظ السيد الرئيس سعيدا على صوت بلبل يغرّد فوق شجرة الحناء! يا له من حلم! إستعاد دفعة واحدة أمجاده الغابرة ، حين كان بإمكانه إصدار قرارات توصف في نشرات الأخبار بأنها تاريخية، وكانت جيوشه المدربة تحرس حدود الوطن ولا تستطيع نملة واحدة ان تعبر الحدود دون أن يعلم جنوده بها. قبل أن يتغير كل شئ ويتحول هو شخصيا الى قلم برتبة جنرال، على يد سماسرة الشركة الوطنية، كل ما يقوم بعمله هو وضع إمضائه على قرارات جرى تنفيذها في الواقع قبل سنوات. ذات مرة بعد أن وضع إمضائه على قرار جمهوري، دفعه فضول عابر لإلقاء نظرة على الورقة التي قام للتو بوضع إمضائه عليها. رأى إسم أحد أصدقائه القدامى: اللواء عبدالرحيم نور الدين، نظر بسرعة الى أعلى الصفحة ليعرف موضوع القرار، فوجده مصادقة على حكم بالإعدام أصدرته محكمة عسكرية بحق عشرة من الضباط شاركوا في محاولة إنقلابية.
أمسك بالورقة بعيدا عن يد مندوب الشركة الوطنية الممدودة اليه، وقال بنبرة حاسمة : يجب تخفيض هذه الأحكام، لا يمكنكم إعدام هذا ...!
قاطعه مندوب الشركة الوطنية بهدوء: لا يمكن ذلك سعادتك. لقد تم تنفيذ الأحكام!
عرف أنهم ينفذون الأحكام أولا ثم تعقد المحاكمات بعد ذلك! معظم المحاكمات التي رأى أجزاء منها في جهاز التلفزيون كان المتهمون فيها كلهم موتى، عرف أنهم: يستأجرون متهمين بالساعة أو يحضرون مسجونين من السجن المركزي لتمثيل دور المتهمين! وكل ذلك لتنظيف سجل النظام أمام منظمات حقوق الانسان ودحض تعرّض المتهمين للتعذيب.
قضى قيلولته غارقا في حزنه ودموعه على صديقه القديم عبد الرحيم ، مساء كفكف دموعه، شعر بعزاء أن الرجل الذي يعرفه جيدا، قام بما هو متوقع منه، ما كان لشخص مثله أن يقبل بما يحدث من حكومة الشركة الوطنية التي استولت على الحكم من خلف ظهره، وتركته مجرد لافتة. مجرد خيال مآتة لا يفزع أحدا، للإيحاء بأن كل شئ موجود في مكانه، قبل أن يقوموا بتفكيك كل شئ، وخوفا من أية محاولة إنقلابية، قاموا أولا بتفكيك الجيش، وكانت حجتهم: لم يطلقوا طلقة واحدة سيدي الرئيس منذ عقود، منذ أن حل السلام في ربوع وطننا بسبب حكمتكم سيدي الرئيس، حتى أن بنادقهم لم تعد تطلق النار ، لا بسبب الدعاية المغرضة حول الأسلحة الفاسدة التي زعمت صحافة أحزاب عهد الفوضى أن وزير الدفاع قام بإستيرادها، أو بسبب الشائعة الكاذبة التي زعمت أن وزير الزراعة إستورد مع السماد والبذور المعالجة وراثيا ومبيدات الجراد، ذخيرة فاسدة من الصين. لكن بسبب الصدأ سيدي الرئيس!
نحن نستورد كل شئ من الصين سيدي الرئيس، حتى سراويلنا نستوردها من الصين، بدلا من أن نلبس مما نصنع، حيث العمالة الوطنية تكلفتها عالية، ولتخفيف التلوث، قررنا أن نلبس مما يصنع الصينيون. ولم يحدث أن استوردنا منهم شيئا فاسدا. لا توجد سراويل فاسدة في أسواقنا، انها إشاعات ضارة تطلقها فلول الأحزاب المنحلة سيدي الرئيس حتى أنهم يقولون أن المبيدات لا تقتل الجراد، وأن الجراد كان يشاهد منتعشا في المزارع بعد رشه بالطائرات! لأن الجراد كما تزعم الشائعة يصبح أكثر إنتعاشا ونشاطا بعد الحمام المجاني الذي يحصل عليه من طائرات الرش سيدي الرئيس!
حين سمع صوت غناء البلبل، شعر بفرح طاغ لفكرة أن الحديقة عادت الى حضن الوطن، وربما عاد النهر أيضا! أزاح الستار بجانب فراشه قليلا حتى يرى ما يحدث بالخارج دون أن تكشفه كاميرات الشركة الوطنية. رأى البلبل على بعد أمتار قليلة من نافذته واقفا فوق علم دولة أجنبية خارج حدود الوطن!، وكان يغني بنفس الحماس والقوة التي كان يغني بها في السابق فوق أشجار الجهنمية والتمر الهندي ، حين كانت تلك الأشجار تتبع الوطن!
يا للكارثة هل اصبح بلبلي الأثير أجنبيا؟
يشعر أنه يستعيد مع صوت غناء البلبل بعض هيبة سلطته الغابرة. يصدر قرارا جمهوريا بأن يعود البلبل ليغرد في أرض الوطن!
قام بنفسه بطباعة القرار على الآلة الكاتبة العتيقة في مكتبه، أحضر مندوب الشركة الوطنية منذ سنوات جهاز كمبيوتر لكن السيد الرئيس لم يتمكن من التعود على العمل عليه. بدا له الجهاز الشيطاني مثل كاميرا أخرى من كاميرات الشركة الوطنية التي تحصي أنفاسه. بعد أن قام بطباعة القرار وضع إمضائه عليه ، لم يظهر مندوب الشركة الوطنية في ذلك اليوم، بحث داخل القصر عن الحاجب الذي كان يساعده في إرتداء ملابسه العسكرية فلم يعثر عليه. وجد حارسا صغيرا يجلس في مدخل البيت، أعطاه القرار الجمهوري الذي بدا أقرب الى أمر قبض على طائر البلبل، طلب منه المساعدة في القبض على البلبل وإستعادته ليغني في الوطن.
قال الحارس الصغير: لا يمكننا دخول الحديقة يا سيدي ، سمعت زملائي الأقدم مني يقولون إن الدخول ممنوع الى الحديقة التي تتبع الآن لدولة أخرى إلا إذا حصل من يريد الدخول على فيزا للدخول من تلك الدولة!
أثناء تجواله المسائي في الذاكرة، التي يحاول عن طريق إعادة النجوم الى أماكنها القديمة فيها، إعادة ترتيب الوقائع القديمة التي إختلطت في ذاكرته مع صور عصور مختلفة. رأى أثناء بحثه، قفص عصافير في إحدى غرف القصر.تأكد أنه لم يكن يحلم وقضى النهار التالي كله بحثا عن القفص حتى عثر عليه، لم يتذكر صاحب القفص، إستخدم لعبة النجوم فرأى في ضباب الذاكرة سيدة جميلة تجلس في بهو القصر فيما عندليب حزين يغني داخل القفص! لم يتعرف على السيدة الجميلة ولم يتمكن من تحديد الزمان الذي وجدت فيه. لكن الصور وإشارات الضوء كانت تشير الى زمان سعيد، فقد رأى النهر يغمر بمياهه الطينية الجروف ومزارع الموز، وعصافير الحديقة تغني، ورأى النجوم تختفي خلف سحابات خريف كان يغرق الوطن كله في مواسم الخصب .
أمام بوابة القصر وجد الحارس الصغير، أشار له بيده، فتبعه الشاب الصغير الى مكتبه، شرح له خطته لإستعادة البلبل ليغرد في أرض الوطن، وعد الشاب الصغير بمنحه وساما وترقية خاصة اذا ما نجح في إستعادة البلبل، كما سحب درج مكتبه وتناول عدة وريقات مالية دفع بها للشاب الصغير، لم يشأ الحارس الشاب إحراجه، فالأوراق المالية كانت خارج التداول منذ سنوات، قامت الشركة الوطنية خلالها بتغيير العملة الوطنية عدة مرات.
وضع الحارس الأوراق المالية في جيبه ووعد السيد الرئيس خيرا. وأوضح:
لن يمكنني التسلل الى الحديقة الا ليلا حين يخلد حراسها للنوم، ولا أدري إن كان بإمكاني العثور على البلبل مساء. وصف له السيد الرئيس الأشجار التي إعتاد البلبل أن يغرد ويبني أعشاشه فوقها. ثم أعطاه القفص ليضع البلبل فيه.
في الليلة الاولى لم ينجح الحارس في الدخول الى الحديقة، شرح للسيد الرئيس أن الحديقة كان بها إحتفال إمتد لوقت متأخر من الليل، سأله الرئيس: من كان هنالك؟
قال الحارس: كان هناك غرباء ، كانوا يرقصون طوال الليل، وشارك في الرقص معهم عدد من رجال الشركة الوطنية سيدي الرئيس!
قال السيد الرئيس مندهشا: كيف يرقصون مع تلك اللحي الطويلة!
أبتسم الحارس الشاب وقال ببساطة : في الليل تختفي لحاهم سيدي الرئيس، يتركون اللحي في سياراتهم حين يكون هناك إحتفال تقيمه إحدى الدول الأجنبية الكثيرة التي تقاسمت الوطن!
لكن السيد الرئيس كان يريد أن يفهم لماذا إشترى الغرباء حديقة القصر؟
قال الحارس: سمعت أنهم ينقبون فيها عن الذهب، كما أنهم أبقوا على الجزء الأكبر منها على حاله يقوم كل راغب في إقامة حفل أو مهرجان بإستئجار الحديقة سيدي الرئيس!

في اليوم التالي أحضر الفتى البلبل ، عرف السيد الرئيس أن الحارس نجح في مهمته بمجرد أن إستيقظ على صوت غناء البلبل، يغرّد في الوطن، شعر بأنه يستعيد زمام سلطته الغابرة. قال وهو يجلس على مكتبه بنشاط ويبحث مستخدما عدسته المكبّرة عن الوطن في خريطة العالم من خلفه!
قال: أنا مستعد تماما لممارسة سلطتي الأبدية، شئ واحد فقط بقى لأستعيد سلطاتي كلها: أين الوطن!
لكن غناء البلبل تناقص، رغم أن السيد الرئيس كان يطعمه بنفسه من بقايا فتات الخبز وقطع البسكويت، وبعد مرور ثلاثة أيام توقف البلبل نهائيا عن الغناء، لم يجد السيد الرئيس شخصا يستنجد به الا الحارس الصغير. قال الحارس إن البلبل يشتاق لحريته، إنه يغني للحرية. لا يستطيع المسجون أن يغني.
لكننا إن أطلقنا سراحه، قال السيد الرئيس، مستوحيا عبارة الحارس الصغير: سيهرب ويغادر حدود الوطن! لا يستطيع المسجون أن يغني!
أوضح الحارس: أفضل ان يكون خارج حدودنا ونسمع غنائه، بدلا من أن يكون بجانبنا ولا نسمع غنائه.
فكر السيد الرئيس قليلا، ثم أمر الحارس أن يطلق سراح الطائر، إستدار الطائر في الهواء عاليا، لا أثر للجدران في الهواء، ثم هبط وبدأ يغني مرة أخرى فوق شجرة التمر الهندي، لم يجد السيد الرئيس فرقا ، فالصوت الحالم كان يملأ الهواء، دون أن يميز بين هواء الوطن وهواء البلد المجاور. كان غناء الطائر يعيد الحياة الى الوقائع الخامدة ، فتنهض ذكريات القرن الماضي في ذاكرته ويتلمس العالم العائد من حوله خطاه المتعثرة على بصيص ضوء الفجر الوليد.

الرحلة الطويلة نحو الشمس أو أحلام الملكة النائمة


(إهداء: الى صديقي المناضل فتحي البحيري ورفاقه)

 


كانت الفتاة الجميلة تتنقل داخل البص على مسئولية جسد خفيف مثل فراشة، كانت لا تبدو كأنها تمشي على قدمين مثل البشر، بل تتخلل الأشياء أثناء عبورها مثل سحابة، مثل غمامة عطر، وكانت رائحة جسدها ، خليط من عبق الزهور ورائحة الارض: رائحة الحياة. كنا نجلس داخل البص كأننا في رحلة إلى عوالم اخرى، إلى الفضاء. وكأننا منومون مغناطيسياً، لا نعرف لم يجب أن نستيقظ أو نخلد للنوم، لم تشغلنا الساعة ولم يسأل أي من الركاب أين نحن ومتى نصل وجهتنا. كأننا وصلنا وجهتنا منذ زمان بعيد فلم يعد ذلك يشغلنا، لم نكن نملك زمننا أو قرارنا أو حتى وجوهنا التي كانت تتحرك آليا في الفراغ، تصطدم ببعضها، مثل طائرات ورقية، كأن قوة مجهولة كانت تتحكم في تحريكها .

حين توقف البص في سوق ليبيا محطته الأخيرة قبل أن ينطلق إلى الصحراء. أبدى أحدهم الرغبة في الذهاب إلى السوق لشراء علبة سجائر، أعطاه الشاب الذي يجلس بجانبي ثلاثة جنيهات طالبا منه إحضار (صباع أمير) معه. قبل نزوله من البص، تلكأ الرجل و نظر بإستعطاف بإتجاه الفتاة الجميلة أملا أن تطلب منه شيئا ما ، ترسله إلى أية مكان، كان مستعدا للذهاب إلى الجحيم إن كان المقابل بسمة ساحرة أو كلمة شكر. لم تخيب الجميلة ظنه، طلبت منه بصوت ملائكي أن يحضر لها نصف رطل من حلوى الطحينية! قبل أن تمد يدها إلى جيبها لتسحب محفظتها الصغيرة لتدفع قيمة الحلوى الطحينية. ودون تردد، خرجت في نفس اللحظة وبنفس السرعة خمسون محفظة بعدد ركاب البص عارضين دفع قيمة الحلوى الطحينية! حتى الطفل الجالس أمامي أخرج كيسا من قماش الدمور به عملات معدنية أصبحت خارج الاستخدام بفضل التضخم، والتغيير المتكرر للعملة الوطنية، و لا تكفي لشراء أية شئ، عارضا الدفع! سحبت انا ايضا محفظتي وان كنت بقيت لبرهة مندهشا لفكرة أن يحتاج كل هذا الجمال لأكل حلوى الطحينية! لكن الرجل الذاهب إلى السوق لم يجد مكافأة له أفضل من الطلب نفسه، رفض أخذ نقود من الجميلة مؤكدا إنه يملك مالا كثيرا. فيما بعد اكتشفت انه لم يكن يملك مالا كثيرا او قليلا، وانه اشترى حلوى الطحينية بثمن (صباع امير) الذي حصل عليه من الرجل الآخر! لا بد أنه فكر قائلا لنفسه: يستطيع الرجال الانتظار! لكن كيف نجعل الملاك ينتظر؟! وما جدوى (صباع أمير) أصلا؟ لتبق الأكواب المكسورة والاطباق كما هي في مكانها، في كل الاحوال بسبب التقشف الذي أعلنته الحكومة لا يوجد كثير من الطعام يحتاج لاستخدام حتى الأطباق المكسورة. واختفت لحسن الحظ مادة السكر من البيوت والأسواق بسبب الغلاء. عرفت بذلك حين وجدت الشاب الجالس بجانبي يتشاجر مع الرجل الذي احضر حلوى الطحنية، هامسا له انه سيخبر الجميلة إن الطحنية تم شرائها بنقوده إن لم يعد اليه النقود فورا! بالفعل سمعت الرجل يقول وكأنه قرأ افكاري: يمكنك الانتظار، انت معتاد عليه منذ إن ولدت، كأنك خرجت الى الدنيا فقط لتتنقل من (صف) الى آخر! تقف أحيانا فى صف لتشتري خبزا ويمضي الزمن وانت واقف (يتغير حتى العالم من حولك) وتدق مارشات انقلابات عسكرية وانقلابات مضادة، وأنت واقف كأن مصير العالم كله متوقف على انتظارك لقطعة خبز لا تجئ وان جاءت لا تسد رمقا. أنت متمرس على الانتظار دون هدف، لكن كيف نجعل الملاك ينتظر؟ هل رأيت من قبل ملاكا يقف في صفوف الخبز او الدواء!
كان رده مقنعا حتى إن الرجل الجالس إلى جواري كف عن التذمر وتذكيره كل بضع دقائق انه مدين له بثمن الحلوى وانه هو من يجب إن تشكره الجميلة لأنه دفع ثمن الحلوى. لم نشعر بحرارة الجو، رغم أن الصحراء خارج البص كانت على وشك الاشتعال، مضى النهار الطويل بسرعة كأنه يسابق البص نفسه، حتى إنتبهنا إلى الشمس التي كانت تغرق في الصحراء. بدت لنا كأنها ترفع يدها مستنجدة بنا أن ننقذها قبل إن تغرق في جحيم الظلام. كان صعبا علينا فهم مرور الزمن، فقد بدت لنا الشمس الغاربة جزءا من الجمال الأبدي الذي يغرق الكون كله. تعالى صوت عزف على آلة الطنبور، مضى بعض الوقت قبل إن نتبين خيوطه من بين هدير الجمال من حولنا. كان الرجل الذي أحضر الحلاوة الطحينية هو أول من تنبه للفتى الجالس في مقدمة البص يعزف لحنا حزينا مثل تلك الشمس الغاربة، بدا لنا اللحن نفسه وكأنه يستنجد بشئ مجهول حتى لا يضيع وسط أمواج السحر الذي يغرق المكان.

ثم بدأ الفتى يغني، كان يغني مقطعا وتغني الفتاة الجميلة مقطعا آخر، غرقنا تماما في سحر الغناء الذي شعرنا كأننا نطفو فوق أمواجه. رأيت القمر يقترب من النافذة، جذبه صوت الغناء الجميل. تمنيت في تلك اللحظة إن يتعطل البص أو يحدث زلزال قوته عشر درجات على مقياس هذا الحلم الجميل لنبق نطفو فيه إلى الأبد. حين أخلدت الجميلة إلى النوم، إنقطعت فجأة نغمات الطنبور، نام العالم كله، بدت حتى الصحراء نفسها كأنها وجدت في تلك اللحظة كغطاء سحرى لنوم الجميلة. لم يكن يصدر عنها أية صوت أثناء نومها، كأن العالم نفسه توقف عن التنفس، كنت الوحيد الذي بقي مستيقظا فيما صوت البص يزأر في سكون الصحراء مثل أسد هزمه الجوع. فيما كان القمر الحزين لا يزال واقفا في النافذة، ومن خلفه صف طويل من الكواكب في إنتظار خبز الوجه النائم الساحر.

وحتى لا أشعر بالسأم لأنني لا أخلد ابدا للنوم أثناء السفر حتى وان كنت اسافر في قارب يهدهده الموج وضوء القمر، فكرت في ممارسة هوايتي في قراءة أحلام من يخلدون للنوم حولي. لم أر شيئا في البداية حتى حسبت إن سحر هذه الجميلة عطل كل مواهبي في اقتحام ذاكرة النائمين، فجأة رأيت الهواء داخل البص مليئا بأنفاس أحلامها. لابد ان للجميلة النائمة سحرا يجعلني لا أقرأ احلام النائمين في ذاكرتي مثلما كنت افعل، بل أشاهد كل شئ معروضا امامي في الهواء.

رأيت وجوها معلقة في الفضاء مثل النجوم، رأيتها تجلس مثل الملكة الكنداكة فوق عرش من النور، ثم بدأت شلالات الضوء تتدفق من عرشها تعبر مثل سيل من النور فتهرب أمامها جيوش الظلام ، فيصبح العالم كله كتلة من الضوء. لابد إن الجميلة إنتقلت فجأة إلى نوم عميق فقد اختفت أحلامها من الهواء، رغم أن بقية خيوط شلالات ضوء عرشها كانت لا تزال تضئ العالم. رأيت أحلام الرجل الذي أحضر الحلوى الطحينية للجميلة، دهشت لأن أحلامه يغلب عليها الجشع، كان جالسا بلحية طويلة تلامس الأرض، في متجر ضخم مكدس بالبضائع من كل نوع، كل ما يحلم به كان معروضا للبيع، حسبته من حادثة الحلاوة الطحينية يملك قلبا كبيرا حتى انه إختلس نقود صديقه بدافع الحب، لكن أحلامه أوضحت أنه يمكن إن يختلس نقودا لدوافع أخرى. رأيت أحلام الفتى الصغير الذي كان يعزف على الطنبور، وجدت فيها بقية الصور التي ضاعت من أحلام الجميلة حين غرقت في لجة النوم العميق. الوجوه المتناثرة مثل نجوم تائهة في الفضاء ومواكب النور، التي تصعد في رحلتها الى أبد السماء. رأيت أحلام رجل يجلس في مؤخرة البص، عرفت من أحلامه أنه لص فقير لا يجد حتى ما يسد رمقه. كان يسرق في حلمه قصرا منيفا لرجل يملك سلطة ومالا. كان اللص جالسا أرضا يحصي أكداسا من العملات الصعبة التي عثر عليها في القصر. تمنيت ألا تشرق الشمس أبدا، إن تضيع في الفضاء وتنسى أية عالم سيتعين عليها إيقاظه بأشعتها الحارقة. وأن اظل الى الأبد جالسا في اطياف احلام هذه الملكة.

فجأة بهرني بركان ضوء الفجر المتدفق في المكان، حسبت أن الضوء قادم من الخارج، حيث العالم بدأ يصبح أشبه بالفضة الذائبة، وتراجع الى الفضاء القمر الواقف في النافذة وصف الكواكب من خلفه. قبل أن اكتشف الفجر الصاعد من أحلام الملكة النائمة، مواكبا من النور وسيولا من البشر التي تهدر في الشوارع، في الرحلة الطويلة نحو الشمس
.