woensdag 12 juni 2013

البلبل يغرّد في القصر بقرار جمهوري!
 

بعد أن إختفى النهر وإختفت حديقة القصر من بعده، تعود السيد الرئيس على قضاء معظم وقته في غرفة مكتبه. يحاول بعث الحياة في ذاكرته الميتة من خلال الصور التي يقتفي فيها خطى الوطن في القرن الماضي. فيرى عمال لقيط القطن يغنون في العربات الضخمة التي تحملهم من أقاصي الوطن، ويرى ريح الشمال المحملة بالغبار تعبر فوق سنابل القمح الواعدة، يرى الصبية يلعبون في الطرقات البعيدة في طريقهم للمدرسة. يكتشف في كل مرة ان أياد خفية تعبث بأوراقه ومقتنياته القديمة. حتى الصور كان يتم إستبدال بعضها تدريجيا بصور لا يمكن تحديد زمانها ومكانها، يظهر فيها أناس بلا ملامح يستحيل الجزم بأنهم وجدوا أصلا على ظهر البسيطة.
في ذلك الصباح إستيقظ السيد الرئيس سعيدا على صوت بلبل يغرّد فوق شجرة الحناء! يا له من حلم! إستعاد دفعة واحدة أمجاده الغابرة ، حين كان بإمكانه إصدار قرارات توصف في نشرات الأخبار بأنها تاريخية، وكانت جيوشه المدربة تحرس حدود الوطن ولا تستطيع نملة واحدة ان تعبر الحدود دون أن يعلم جنوده بها. قبل أن يتغير كل شئ ويتحول هو شخصيا الى قلم برتبة جنرال، على يد سماسرة الشركة الوطنية، كل ما يقوم بعمله هو وضع إمضائه على قرارات جرى تنفيذها في الواقع قبل سنوات. ذات مرة بعد أن وضع إمضائه على قرار جمهوري، دفعه فضول عابر لإلقاء نظرة على الورقة التي قام للتو بوضع إمضائه عليها. رأى إسم أحد أصدقائه القدامى: اللواء عبدالرحيم نور الدين، نظر بسرعة الى أعلى الصفحة ليعرف موضوع القرار، فوجده مصادقة على حكم بالإعدام أصدرته محكمة عسكرية بحق عشرة من الضباط شاركوا في محاولة إنقلابية.
أمسك بالورقة بعيدا عن يد مندوب الشركة الوطنية الممدودة اليه، وقال بنبرة حاسمة : يجب تخفيض هذه الأحكام، لا يمكنكم إعدام هذا ...!
قاطعه مندوب الشركة الوطنية بهدوء: لا يمكن ذلك سعادتك. لقد تم تنفيذ الأحكام!
عرف أنهم ينفذون الأحكام أولا ثم تعقد المحاكمات بعد ذلك! معظم المحاكمات التي رأى أجزاء منها في جهاز التلفزيون كان المتهمون فيها كلهم موتى، عرف أنهم: يستأجرون متهمين بالساعة أو يحضرون مسجونين من السجن المركزي لتمثيل دور المتهمين! وكل ذلك لتنظيف سجل النظام أمام منظمات حقوق الانسان ودحض تعرّض المتهمين للتعذيب.
قضى قيلولته غارقا في حزنه ودموعه على صديقه القديم عبد الرحيم ، مساء كفكف دموعه، شعر بعزاء أن الرجل الذي يعرفه جيدا، قام بما هو متوقع منه، ما كان لشخص مثله أن يقبل بما يحدث من حكومة الشركة الوطنية التي استولت على الحكم من خلف ظهره، وتركته مجرد لافتة. مجرد خيال مآتة لا يفزع أحدا، للإيحاء بأن كل شئ موجود في مكانه، قبل أن يقوموا بتفكيك كل شئ، وخوفا من أية محاولة إنقلابية، قاموا أولا بتفكيك الجيش، وكانت حجتهم: لم يطلقوا طلقة واحدة سيدي الرئيس منذ عقود، منذ أن حل السلام في ربوع وطننا بسبب حكمتكم سيدي الرئيس، حتى أن بنادقهم لم تعد تطلق النار ، لا بسبب الدعاية المغرضة حول الأسلحة الفاسدة التي زعمت صحافة أحزاب عهد الفوضى أن وزير الدفاع قام بإستيرادها، أو بسبب الشائعة الكاذبة التي زعمت أن وزير الزراعة إستورد مع السماد والبذور المعالجة وراثيا ومبيدات الجراد، ذخيرة فاسدة من الصين. لكن بسبب الصدأ سيدي الرئيس!
نحن نستورد كل شئ من الصين سيدي الرئيس، حتى سراويلنا نستوردها من الصين، بدلا من أن نلبس مما نصنع، حيث العمالة الوطنية تكلفتها عالية، ولتخفيف التلوث، قررنا أن نلبس مما يصنع الصينيون. ولم يحدث أن استوردنا منهم شيئا فاسدا. لا توجد سراويل فاسدة في أسواقنا، انها إشاعات ضارة تطلقها فلول الأحزاب المنحلة سيدي الرئيس حتى أنهم يقولون أن المبيدات لا تقتل الجراد، وأن الجراد كان يشاهد منتعشا في المزارع بعد رشه بالطائرات! لأن الجراد كما تزعم الشائعة يصبح أكثر إنتعاشا ونشاطا بعد الحمام المجاني الذي يحصل عليه من طائرات الرش سيدي الرئيس!
حين سمع صوت غناء البلبل، شعر بفرح طاغ لفكرة أن الحديقة عادت الى حضن الوطن، وربما عاد النهر أيضا! أزاح الستار بجانب فراشه قليلا حتى يرى ما يحدث بالخارج دون أن تكشفه كاميرات الشركة الوطنية. رأى البلبل على بعد أمتار قليلة من نافذته واقفا فوق علم دولة أجنبية خارج حدود الوطن!، وكان يغني بنفس الحماس والقوة التي كان يغني بها في السابق فوق أشجار الجهنمية والتمر الهندي ، حين كانت تلك الأشجار تتبع الوطن!
يا للكارثة هل اصبح بلبلي الأثير أجنبيا؟
يشعر أنه يستعيد مع صوت غناء البلبل بعض هيبة سلطته الغابرة. يصدر قرارا جمهوريا بأن يعود البلبل ليغرد في أرض الوطن!
قام بنفسه بطباعة القرار على الآلة الكاتبة العتيقة في مكتبه، أحضر مندوب الشركة الوطنية منذ سنوات جهاز كمبيوتر لكن السيد الرئيس لم يتمكن من التعود على العمل عليه. بدا له الجهاز الشيطاني مثل كاميرا أخرى من كاميرات الشركة الوطنية التي تحصي أنفاسه. بعد أن قام بطباعة القرار وضع إمضائه عليه ، لم يظهر مندوب الشركة الوطنية في ذلك اليوم، بحث داخل القصر عن الحاجب الذي كان يساعده في إرتداء ملابسه العسكرية فلم يعثر عليه. وجد حارسا صغيرا يجلس في مدخل البيت، أعطاه القرار الجمهوري الذي بدا أقرب الى أمر قبض على طائر البلبل، طلب منه المساعدة في القبض على البلبل وإستعادته ليغني في الوطن.
قال الحارس الصغير: لا يمكننا دخول الحديقة يا سيدي ، سمعت زملائي الأقدم مني يقولون إن الدخول ممنوع الى الحديقة التي تتبع الآن لدولة أخرى إلا إذا حصل من يريد الدخول على فيزا للدخول من تلك الدولة!
أثناء تجواله المسائي في الذاكرة، التي يحاول عن طريق إعادة النجوم الى أماكنها القديمة فيها، إعادة ترتيب الوقائع القديمة التي إختلطت في ذاكرته مع صور عصور مختلفة. رأى أثناء بحثه، قفص عصافير في إحدى غرف القصر.تأكد أنه لم يكن يحلم وقضى النهار التالي كله بحثا عن القفص حتى عثر عليه، لم يتذكر صاحب القفص، إستخدم لعبة النجوم فرأى في ضباب الذاكرة سيدة جميلة تجلس في بهو القصر فيما عندليب حزين يغني داخل القفص! لم يتعرف على السيدة الجميلة ولم يتمكن من تحديد الزمان الذي وجدت فيه. لكن الصور وإشارات الضوء كانت تشير الى زمان سعيد، فقد رأى النهر يغمر بمياهه الطينية الجروف ومزارع الموز، وعصافير الحديقة تغني، ورأى النجوم تختفي خلف سحابات خريف كان يغرق الوطن كله في مواسم الخصب .
أمام بوابة القصر وجد الحارس الصغير، أشار له بيده، فتبعه الشاب الصغير الى مكتبه، شرح له خطته لإستعادة البلبل ليغرد في أرض الوطن، وعد الشاب الصغير بمنحه وساما وترقية خاصة اذا ما نجح في إستعادة البلبل، كما سحب درج مكتبه وتناول عدة وريقات مالية دفع بها للشاب الصغير، لم يشأ الحارس الشاب إحراجه، فالأوراق المالية كانت خارج التداول منذ سنوات، قامت الشركة الوطنية خلالها بتغيير العملة الوطنية عدة مرات.
وضع الحارس الأوراق المالية في جيبه ووعد السيد الرئيس خيرا. وأوضح:
لن يمكنني التسلل الى الحديقة الا ليلا حين يخلد حراسها للنوم، ولا أدري إن كان بإمكاني العثور على البلبل مساء. وصف له السيد الرئيس الأشجار التي إعتاد البلبل أن يغرد ويبني أعشاشه فوقها. ثم أعطاه القفص ليضع البلبل فيه.
في الليلة الاولى لم ينجح الحارس في الدخول الى الحديقة، شرح للسيد الرئيس أن الحديقة كان بها إحتفال إمتد لوقت متأخر من الليل، سأله الرئيس: من كان هنالك؟
قال الحارس: كان هناك غرباء ، كانوا يرقصون طوال الليل، وشارك في الرقص معهم عدد من رجال الشركة الوطنية سيدي الرئيس!
قال السيد الرئيس مندهشا: كيف يرقصون مع تلك اللحي الطويلة!
أبتسم الحارس الشاب وقال ببساطة : في الليل تختفي لحاهم سيدي الرئيس، يتركون اللحي في سياراتهم حين يكون هناك إحتفال تقيمه إحدى الدول الأجنبية الكثيرة التي تقاسمت الوطن!
لكن السيد الرئيس كان يريد أن يفهم لماذا إشترى الغرباء حديقة القصر؟
قال الحارس: سمعت أنهم ينقبون فيها عن الذهب، كما أنهم أبقوا على الجزء الأكبر منها على حاله يقوم كل راغب في إقامة حفل أو مهرجان بإستئجار الحديقة سيدي الرئيس!

في اليوم التالي أحضر الفتى البلبل ، عرف السيد الرئيس أن الحارس نجح في مهمته بمجرد أن إستيقظ على صوت غناء البلبل، يغرّد في الوطن، شعر بأنه يستعيد زمام سلطته الغابرة. قال وهو يجلس على مكتبه بنشاط ويبحث مستخدما عدسته المكبّرة عن الوطن في خريطة العالم من خلفه!
قال: أنا مستعد تماما لممارسة سلطتي الأبدية، شئ واحد فقط بقى لأستعيد سلطاتي كلها: أين الوطن!
لكن غناء البلبل تناقص، رغم أن السيد الرئيس كان يطعمه بنفسه من بقايا فتات الخبز وقطع البسكويت، وبعد مرور ثلاثة أيام توقف البلبل نهائيا عن الغناء، لم يجد السيد الرئيس شخصا يستنجد به الا الحارس الصغير. قال الحارس إن البلبل يشتاق لحريته، إنه يغني للحرية. لا يستطيع المسجون أن يغني.
لكننا إن أطلقنا سراحه، قال السيد الرئيس، مستوحيا عبارة الحارس الصغير: سيهرب ويغادر حدود الوطن! لا يستطيع المسجون أن يغني!
أوضح الحارس: أفضل ان يكون خارج حدودنا ونسمع غنائه، بدلا من أن يكون بجانبنا ولا نسمع غنائه.
فكر السيد الرئيس قليلا، ثم أمر الحارس أن يطلق سراح الطائر، إستدار الطائر في الهواء عاليا، لا أثر للجدران في الهواء، ثم هبط وبدأ يغني مرة أخرى فوق شجرة التمر الهندي، لم يجد السيد الرئيس فرقا ، فالصوت الحالم كان يملأ الهواء، دون أن يميز بين هواء الوطن وهواء البلد المجاور. كان غناء الطائر يعيد الحياة الى الوقائع الخامدة ، فتنهض ذكريات القرن الماضي في ذاكرته ويتلمس العالم العائد من حوله خطاه المتعثرة على بصيص ضوء الفجر الوليد.


Geen opmerkingen:

Een reactie posten