zondag 25 augustus 2013


عم حمدان يغني للحياة وغابة المطر!


عم حمدان يغني للحياة وغابة المطر!



كان الضوء خافتا جدا حينما أزيح الستار الضخم، فبدا المسرح خاليا مثل قطعة من الليل ’حبست خلف الستار، حتى أن بعض الجالسين في المقدمة أصابتهم خيبة أمل بسبب عدم وجود شئ على المسرح. وشيئا فشيئا بدأت الصورة تتضح، كان أعضاء الفرقة الموسيقية غارقين في تأملات شخصية، تقطعها أحيانا نغمات إرتجالية مفاجئة، كانت تبدو مثل مجرد تذكير للعالم بأنهم موجودون ولم يغرقهم طوفان النسيان الذي يغرق العالم من حولهم. ودون أن تبدر منهم أية إشارة تفيد بأنهم يعملون كفريق واحد ولم تجمعهم مجرد صدفة كما تشير إلى ذلك أنغامهم التي يبحر كل منها في طريق مختلف تماما.
فجأة إندلعت من داخل حشد المتفرجين ضحكات صاخبة تناثرت بفوضى في صورة دوائر ضوئية عاصفة فوق المستنقع الضوئي الخافت، كانت ضحكات ناشزة بصورة أشاعت في المكان حالة من الذعر الخفي، فقد بدا واضحا ومنذ اللحظة الاولي إنها كانت تستمد معينها من مخزون لا ينضب من أحزان مكثفة.
في اللحظة التالية، بدا واضحا أن الضحكات كان لها تأثير وبائي شامل، فقد بدأت تسري فيما يشبه الهمس، مقتحمة عمق الليل، متدحرجة في الحفر والمستنقعات، مختلطة بنقيق ضفادع أول أيام الدميرة، ورطوبة الليل المشبعة بندي الحقول، بعد قليل ودون سابق إعلان، ظهر علي المسرح شخص بدا كأنه لم يكن متوقعا، فاستحال الضحك فحيحا قبل أن يخمد بصورة مفاجئة، إتخذ العازفون وضع الهجوم وحينما أشار قائد الفرقة بعصاه إنسابت موسيقي رقيقة لها الأريج الحذر للورود الجافة.
أوقف حمدان ود حاج النور حماره خارج المسرح وربطه بصورة آلية في أول شئ عثرت عليه يداه، لكنه إكتشف بعد قليل - بعد أن إنطرح أرضا – أنه ربطه في قدمه شخصيا، وفي النهاية تدحرج داخلا زعيما بلا منازع لطائفة السكاري المرحين، الذين أوقفوه مرارا أثناء مروره، لا ليرحبوا بمقدمه كما حسب في البداية، بل لدحض مزاعم بعضهم بأنه كان يسير على وجهه بدلا من قدميه، وللتأكد من أنه لم يكن يغني، بل كان يردد الخطبة القصيرة التي حفظها طوال أسابيع من أجل ترشيح نفسه لعضوية اللجنة الشعبية الجديدة.
بعد قليل بدأ صمت حذر يغزو المكان، تقدم الي المسرح المغني العجوز الذي بدا واضحا أنه كان ثملا تماما، تمكن بعد مجهود خارق من إعتلاء خشبة المسرح، بعد أن إنطلق فجأة من مقاعد المتفرجين حتي أن البعض حسبه في البداية مجرد متسلل بدون ذاكرة، وفي اللحظة التي تأكد فيها بأن المغني العجوز إستعاد أنفاسه رغم أنه بدا غارقا في نوبة تأمل أعطت انطباعا بأن اكتئابه كان ناجما عن ضعف وجداني اكثر مما توقع آخرون بأنه كان ناجما عن ضعف أخلاقي، وفجأة في اللحظة التي بدا فيها قد تجاوز آخر حواجز ضعفه، إنهار فوق أحد العازفين، مصدرا نغما قاسيا ومفاجئا ودون أن ينتظر مساعدة من العازف، إعتمد راحتيه محاولا الوقوف، وفي النهاية حرّك عازف الكمان التوازن الحذر في المكان بإلقائه حفنة مفاجئة من الانغام، جعلت المغني يجفل، ثم يستعيد توازنه، ويبدأ في الغناء، ورغم أن مدخله الأول لفضاء اللحن بدأ بمارشات عسكرية، أعطت إنطباعا حذرا بنبوءة إحتمال تغيير وشيك، حتي أن رئيس اللجنة الشعبية الجالس في المقدمة بدأ في نتف لحيته بحركات عصبية من يده، إلاّ أن اللحن بدأ بعد قليل يأخذ مسارا سلميا، حتي بدا واضحا في اللحظة التالية ان المغني العجوز كان يمتلك مقدرة فذة علي جعل اللحن ينقاد خلفه وهو يجتاز نطاق غابات غير مرئية، ويعبر أنهارا استوائية، ويطوي دون كلل أزمنة منسية تتخلل الزمن الحاضر من خلال ايحاءات ايقاع رقصة الكمبلا، ومقاطع من عزف منفرد علي آلة الوازا مصحوبا برائحة نوار أشجار النيم ورائحة صباحات مواسم الحصاد ، وأغنيات العمال الاحباش في حقول الذرة المطرية وغناء فتية الدينكا وهم يصحبون قطعان الأبقار في موسم التوج.
وفجأة في ذروة المشهد، في اللحظة التي توحدت فيها إنطباعات الوجوه الباهتة بسبب الخوف و الضوء الخافت، سحب المغني العجوز جسده وتواري عن المسرح، رغم أن معظم المشاهدين لاحظوا إستمرار الأغنية بعد لحظات من إختفائه، قبل أن تبدأ الألحان في التراجع مخلفة ذيولا ضوئية ملونة تدافعت للحظات قبل أن يبتلعها الفراغ، الذي زلزلته ضجة الضحك الذي اندلع بصورة أقوي.
لكن المغني عاد بعد قليل ولاحظ الجالسون في المقدمة بأنه كان يترنح بصورة أفضل، ورغم أنهم توقعوا نشوء فراغ في ذاكرته الا أنه واصل أداء الاغنية من المقطع نفسه الذي توقف فيه قبل مغادرته وبنفس مقياس أطوال الاشواق.
لاحظ حمدان ود حاج النور – الذي كان يقف في المؤخرة – مرتجفا بسبب إصابته بالحمي، أن الحشود اللحنية بدأت تأخذ مسارا مغايرا لإتجاه الأغنية التي كانت تنتشر من حوله في صورة دوامات متمزقة ومتداخلة، كان المغني قد غادر المسرح مرة أخري تاركا الأغنية تذوب في حبات الضوء الخافت قبل أن يبددها الهواء، وحين عاد بعد قليل وجد شخصا آخر يقف مكانه مستبيحا أنغامه الخريفية، لاحظ بحذر أن الأداء رغم زيفه كان رائعا للغاية، وأن المغني الجديد لم يبدأ مداخله اللحنية بمارشات عسكرية، بل بنسق عادي حتي أن مدخله الاول كان مقاطع من اغنيات الاطفال في ليالي الدميرة محددا نقطة الدخول الرئيسية بمقطع:
(شليل وينو .. اكلو الدودو .. شليل وين راح .. اكلو التمساح) تاركا المارشات العسكرية تنمو طوال الوقت في حواف ألحانه ، بدلا من جعلها مجرد مدخل تذكاري، في تلك اللحظة إرتفع صوت نغم ناشز نبه المغني العجوز الي خلل تسبب بغياب أحد أهم عازفيه فعرف دون أن يقترب ليري المغني الانقلابي إنه هو العازف الغائب، مكتشفا أن ألحانه الوثيقة الصلة بوقائع يومية، كانت مجرد خدعة لتثبيت أقدامه.
حاول المغني العجوز التقدم ولكنه فشل بسبب الحراسة اللحنية غير المرئية حول المسرح حتي إنه إضطر ليتراجع محاولا إيجاد مكان شاغر وسط المتفرجين، ثم إضطر للتقهقر والوقوف في المؤخرة.
فجأة بدأت قطرات المطر تسقط فوق الوجوه الشمعية، كان المغني الجديد قد فترت حماسته بسبب إرهاق تحمل صدمة أشواق مكثفة دون رصيد من الحزن فإنسحب عائدا لمكانه، تقدم عازف آخر قاد اللحن ببراعة مذهلة، ورغم بدء إنسحاب الجمهور بسبب تزايد ضراوة المطر إلا أن الكثيرين جازفوا بالبقاء بسبب حرارة الأداء، إلا أن صوت المغني الجديد بدأ يضعف بعد قليل، وتخللت أمواج صوته عواصف إستوائية وإنهيارات صخرية، فبذل جهدا يائسا لتدعيم الأغنية الممزقة بمقاطع مرتجلة قبل أن ينسحب للخلف.
حمدان ود حاج النور لاحظ أن هناك عددا كبيرا من رجال القرية كانوا يقفون بتحفز خلف الفرقة الموسيقية ويحاولون التقدم بتردد نحو مكان المغني الشاغر، وفجأة شهر حمدان عصاه مقتحما المسرح وخلفه عاصفة من التصفيق الوجل بسبب تزايد المطر، ولكن حين بدا له أن بإمكانه إفراغ ما في جوفه من الأحلام المضطربة في صورة أنغام مجددة، للحياة وغابة المطر، قفزت الي حمي ذاكرته فجأة صورة ثلاثية الأبعاد، رأي زوجته وأطفاله الصغار جالسين في الفناء بسبب إنهيار البيت، وللمرة الاولي لاحظ أن القدر الذي تركته زوجته يغلي فوق النار حتي ينام الاطفال، كان مليئا بالحجارة. جحظت عيناه، وجفت الكلمات في حلقه، حدّق حوله مذعورا قبل أن يولي الأدبار.

Geen opmerkingen:

Een reactie posten